الجزء الثالث من قصة – سونة – بقلم جهاد سالم
مكتب الكويت متابعه دكتور عابدين البرادعي
كتبت الأديبه جهاد سالم الجزء الثالث من قصة سونة
قالت فوزية وعيناها معلقتان بحسان ابن عمي : انظري إليه كم هو وسيم، رجلًا يملأ ثيابه هيبة وجاذبية.
ثم أردفت بشوق مخفي : آه لو يشعر بما أشعره تجاهه .
وأمسكت بيدها لأعيدها معي لخيمة النساء ، بعد أن خاب أملي في رؤية سالم هناك.
سائلت نفسي بارتباك : ماذا الذي أصابني؟ ، أتصرف كالفتيات الأخريات، هل أصابني ما أصابهن؟
بعد أن انتهت مراسم العرس وغادر الجميع المكان ، ساد الصمت في البيت، والجميع نام بعد يوم وليلة طويلة.
ولكن لم يأتيني النوم بعد ، لم أر سالم الليلة بسبب الزحام الشديد ،وبدأت أفكر فيما حدث ، ولماذا يحدث لي هذا ؟
وحاولت النوم كثيرًا، أتقلب يمينًا ويسارًا. ولا يجئ النوم.
استيقظتُ مبكرًا، وشعاع الصباح يتسلل بخفة عبر ستائر نافذتي. لم أكن على طبيعتي، وأمي تقرأ في ملامحي ما يعجز لساني عن البوح به. اقتربت، وضعت يدها الحانية على جبيني، وهمست بقلق: أنتِ مريضة؟
كان الإرهاق مرسومًا على وجهي كحكاية أرهقتها الليالي. أجبتها على عجل: لا يا أمي، لقد أرهقتُ نفسي في العرس البارحة.
هزّت رأسها غير مقتنعة، وقالت بنبرة مشفقة: لا، لا… يبدو عليكِ التعب. وجهكِ شاحب، وعيناكِ ذابلتان، وحرارتكِ مرتفعة.
لم أجد في داخلي ما أرد به، وجلستُ جانبًا أشعر بقوتي تتهاوى في بئرٍ سحيق لا قرار له.
بصوتٍ خافتٍ هزيل، همست: نعم، يبدو أنني مريضة حقًا.
لم تكن تعلم أن الليلة الماضية سرقت مني النوم وأبقتني حبيسة أفكاري.
مرّوا من أمامي واحدًا تلو الآخر، نظراتهم تحمل ألمًا مكتومًا، ونصائحهم تتكرر: لازمي السرير، لا تجهدي نفسك.
انسحبت إلى حجرتنا، كان السكون يحتضنني، ووسادتي تنتظر دمعةً حبستها عن الجميع.
وضعتُ خدي على الوسادة، وغرقتُ في نومٍ عميقٍ، عانقني بقسوة الفقدان، وجعلني لا أشعر بهم وهم يغادرون البيت لزيارة العروس.
استيقظتُ دون أن يوقظني أحد، وصمتُ البيت يلفني كسحابةٍ ثقيلة. ناديتُ على أمي وأخواتي، لكن الصدى وحده عاد إليّ. أدركتُ أنهم ما زالوا هناك، عند العروس، ولم يعودوا بعد.
خرجتُ من البيت بخطواتٍ مثقلة، وجلستُ على المصطبة بجانبه، أترقب عودتهم، وأحاول تهدئة قلبي الذي لم يهدأ منذ البارحة.
سرحتُ بأفكاري، حتى جاءني صوتٌ من خلفي، دافئٌ كنسمةٍ في صباحٍ بارد:
ألف سلامة عليكِ يا ابنة عمي… علمتُ منهن أنكِ مريضة، فمررتُ من أمام البيت لعلي أراكِ.
التفتُ إليه، وعيناي لا تشبعان من رؤيته. كأنني ألومه بصمتي: كيف غاب عني بالأمس؟ كيف تركني وحيدةً في بحرٍ من الأفكار؟
لكنني لم أستغرب حديثه، رغم أن لقاءنا الوحيد كان عاصفًا، حين تشاجرنا بعنادٍ طفولي.
شعرتُ بحرارةٍ تعتلي وجنتيّ، وأسقطتُ نظري إلى الأرض، عاجزةً عن النطق.
ضحك بخفةٍ وقال: ماذا عن سونة الجريئة؟ أأكلت القطة لسانها؟
لم أستطع أن أرد. كان لساني ثقيلًا، لكن دموعي خانتني، وانحدرت على وجنتيّ بلا استئذان.
ارتبك لرؤيتي أبكي، واقترب قائلًا: دموعكِ غالية عليّ يا ابنة عمي… ألهذه الدرجة أنتِ مريضة وتتألمين؟
رفعتُ نظري إليه، وعيناي تبوحان بما عجز لساني عن قوله. أردتُ أن أخبره كيف سهرَت عيناي تفكر فيه، وكيف أنني لم أنم البارحة لحظةً واحدة… لكنه ظلّ واقفًا هناك، ينتظر إجابةً لن يأتي بها لساني أبدًا.
وكيف لسعادتي أن تُخفى، وقد رأيته الآن أمامي؟ كان ينظر إليّ متأملًا، عيناه تغوصان في عيوني دون أن ينطق بكلمة. قرأتُ في نظراته الكثير، وكأنه كشف أمري دون أن أتكلم.
ابتسمتُ له بخجل، واحمرّت وجنتاي، فأزحتُ وجهي للجهة المقابلة هربًا من نظراته التي كانت تفضحني.
لكن فجأةً تذكرت أنني يجب أن أدخل البيت قبل أن يراني أبي أو أخي…حتى لا يشنقاني على باب الدار.
استدرتُ مسرعةً نحو الباب، تركتُه واقفًا خلفي، لم ينطق بكلمة، وأغلقتُ الباب خلفي بإحكام.
جلستُ خلف الباب، وانهمرت دموعي دون توقف، أبكي مصيبتي التي لا يعلم بها أحد… كيف أحببتُ ابن عمي وأنا أعلم أنني لن أتزوجه أبدًا؟ كيف لي أن أحلم به، وفارق السن بيننا يحطم كل آمال الزواج؟
ومع بزوغ شمس الصباح، غنّت العصافير فرحةً بنسائم الفجر العليلة، وراقصت السواقي بمياهها الرقراقة.
غادر أبي وأخي محمد إلى الحقل، بينما أمي نادت عليّ: استعدّي يا سونة لتحملي الزاد لأبيكِ وأخيكِ.
كان الزاد سُرةً من القماش تحتوي على طعامٍ جاف لتناوله مؤقتًا حتى يعودا إلى البيت للوجبة الأساسية.
حملتُ الزاد وسِرتُ ناحية الحقل، ملزمةً بالترعة كما أوصتني أمي من قبل.
وبينما أسير بجوار الماء، بدأت ملامح بيوت القرية تتلاشى خلف أشجار الكافور والصفصاف، حتى وصلتُ إلى الحقل.
أشرق وجه أبي عندما رآني وقال مبتسمًا: أحسنتِ يا سونة… حبيبة أبيكِ أنتِ! ثم قبّلني على جبيني بحنان.
العراق مكتب بغداد/ صحفي ميساني يعمل بصمت في بغداد
صحفي ميساني يعمل بصمت في بغداد بقلم الاعلامي علي محمد جابر الحلفي في زمنٍ تتسابق فيه الأضو…
 
            








 
								 
								 
								 
								 
								 
							 
							 
							 
							